رسالة بعلم الوصول.. إلى عفاف راضى ردى السلام عملية البحث عن صوت الدفء الغائب - نبض مصري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

طالما حملت أجواء الستينيات أقاويل هنا وأخبارًا هناك، البعض منها حقيقى، والكثير سراب يذوب فى فضاء الأيام، لكن خبر منع فيروز والرحبانية من دخول مصر بأمر عبدالناصر لم يكن من تلك النوعية التى تمر مرور الشهاب المحترق، بل على العكس بدا أن هذا الخبر له يدان وقدمان بعد أن تباعدت المسافات بين الأنغام الرحبانية التى يصدح بها راديو القاهرة، حتى اختفت تدريجيًا، وبدأ الأخوان رحبانى وفيروزتهما يوقنون أنهم بالفعل خارج جنة القاهرة، إلى أن جاء النفى رسميًا على شكل دعوة جادة وجهها أمين هويدى، وزير الإرشاد القومى، إلى فيروز والرحبانية لزيارة الجمهورية العربية المتحدة، وهو الخبر الذى نُشر فى كل جرائد القاهرة أواخر مايو ١٩٦٦ لبيان جدية العرض.

وبالفعل فى ١٤ أكتوبر ١٩٦٦ كانت سفينة الضيوف تزأر على شاطئ ميناء الإسكندرية، يفوح منها العطر الفيروزى، لتبدأ رسميًا الزيارة الأهم للكتيبة الرحبانية إلى القاهرة وتبدأ معها فعاليات وزيارات مرتبة على أعلى مستوى رسمى.

معهد الكونسرفتوار كان أول مقاصد الرحبانية، فى يوم مشمس عادى، وبعد تفقد الضيوف دهاليز المعهد، وبينما كان يستمع الأخوان عاصى ومنصور للمقاطع الأوبرالية الغربية المجهزة سلفًا للترحيب بالضيوف بصوت طلبة المعهد، لاحظ عاصى أن إحدى الفتيات خرجت عن سرب المجاميع خلسة، لتهمس فى أذنه بجملة خاطفة «على فكرة أنا بعرف أغنى عربى كمان»، أدرك عاصى على الفور سبب خوفها من إعلان ذلك على الملأ لأنه يعرف أن الغناء العربى داخل القسم الغربى فى الكونسرفتوار ممنوع منع التحريم، فبادلها الهمس طالبًا منها الحضور إلى فندق إقامته لاحقًا ليسمعها، وأخرج ورقة صغيرة ليكتب اسمها المرشح للنسيان الفورى من فرط عاديته حيث لا يحمل لقبًا عائليًا مشهورًا مثلًا أو اسمًا أول جذاب، فقط كتب «عفاف راضى».

بعد ساعات خرجت الورقة من جيب عاصى لأول مرة أمام صديقه رجاء النقاش، رئيس تحرير «الكواكب»، بعد أن تقابلا على مائدة القنصل اللبنانى بالقاهرة، والتى أعدها ترحيبًا بأبناء بلدته، وحكى عاصى لرجاء بعين لامعة عن تلك الفتاة الرقيقة التى سلبت عقله داخل المعهد بطلّتها الساحرة وصوتها العذب الذى برز وسط المجاميع، ومع أنه لم يسمع صوتها الشرقى بعد، لكن نداء قدريًا عالى النبرات داخله يقول إن تلك الفتاة النحيفة مسكونة بموهبة تنتظر أن يفتح أحدهم أمامها شريانًا لتفيض فيه، وأسرى عاصى للصحفى الكبير عن رغبته فى اصطحابها معه إلى بيروت لتنضم إلى فرقته المسرحية، فالتقط رجاء خيط الشغف من عينى صديقه عاصى وأصابته عدوى حب تلك الفتاة قبل أن يراها، وزادت رغبته فى رؤية من أثارت انتباه كبير الرحبانية لهذه الدرجة، وهو الذى لم يكن يعجبه العجب. سريعًا اقترح رجاء أن يدعوها عاصى إلى فندق إقامته على أن يحضر هو تلك المقابلة ليستمع معه لتلك الفتاة الغامضة، ويحظى لمجلته «الكواكب» بسبق تقديم قنبلة الرحبانية الجديدة.

بعد ساعات أخرى كان رجاء النقاش يقف مشدوهًا بجوار عاصى وأخيه منصور وبعض الحضور مستمعين، كأن على رءوسهم الطير، إلى صوت عفاف الملائكى الدافئ، وهنا يتخذ الصحفى الذكى على الفور قراره بأن تكون بنت المحلة الكبرى هى مطربة «الكواكب» التى ستقف وراءها المجلة بكل ما تملكه من سطوة فنية، ولمزيد من التوثيق خرجت «الكواكب» بعنوان ندوتها الكبرى «عفاف مطربة جديدة تتبناها الكواكب» فى عددها الصادر فى ١٠ يناير ١٩٦٧.

ولأن الرياح تشتهى دائمًا معاندة السفن، فقد جرت مياه كثيرة فى نهر الوطن خلال أعوام النكسة وما تبعها، ما أوقفت سفينة الموهبة الجديدة التى كانت تستعد للانطلاق، وتعاقبت السنوات حتى بدا لعفاف أنها نُسيت بين ركام المعاناة التى يعيشها الوطن بفعل النكسة.

لكن فجأة، وعلى غرار القصص الأسطورية، بعد أن يستبد اليأس ببطلة الحكاية، يظهر أخيرًا الفارس المنقذ، وفى حالتنا اسمه «بليغ حمدى»، ليخطفها على جواده الجامح ويقذفها وسط جنة الشهرة وجحيمها، لتجد عفاف نفسها واقفة أمام جمهور عبدالحليم حافظ «على سن ورمح» فى حفلة الربيع ١٩٧٠، وتشدو محتمية بنغمات بليغ الواقف بجوارها على المسرح كالأسد يصبغ عليها هيبته علها تسترد ثقتها بنفسها وتتخلص من رهبة الوقوف فى نفس مكان العندليب، وبالفعل بدأت بنت المحلة الخجولة تغنى للجمهور الذى هام بها حبًا وهى تنطق أولى كلمات سيد مرسى: 

ردوا السلام.. ألا السلام ده غالى 

ردوا السلام.. وما تطلعوش فى العالى

والآن بعد ٥٥ عامًا، بينما نحاول أن نقتفى أثر تلك المنحة الربانية المسماة عفاف راضى عبر ريحة الورق، ندعو الله أن تستجيب هى لنداء المشتاقين لطلّتها وترد عليهم وعلينا السلام.

ردى السلام.. يا ست عفاف.

محاولة التدشين الأولى لمطربة «الكواكب»

كانت ندوات مجلة «الكواكب» أمرًا معتادًا ودائم الانعقاد منذ عقود، مئات القضايا الفنية التى أثيرت ونوقشت عبر طاولة تلك المجلة العتيقة منذ أربعينيات القرن، وكانت دائمًا المكان الذى يلقى فيه أبناء الوسط الفنى تساؤلاتهم المشروعة يناقشونها، خاصة فى أوقات المفترقات الكبرى التى يمر بها الوطن، مثلما حدث بعد قيام ثورة يوليو عندما اجتمع المنتجون والنجوم ليضعوا داخل صالة تحرير مجلة «الكواكب» خارطة طريق للفن المصرى بعد انهيار الملكية ليكون متوافقًا مع العهد الجديد دون أن يجرح حريته.

لكن ندوة «الكواكب» فى عددها الصادر فى ١٠ يناير ١٩٦٧ لم تكن ندوة عادية مثلما اعتاد قراء المجلة وصانعوها، حتى إن رجاء النقاش نفسه الذى كتب تغطية الندوة وصفها بأنها ندوة غريبة ومثيرة لأنها لا تناقش قضية فكرية أو فنية كما هى العادة، ولكنها اجتمعت لأمر آخر يخص فتاة صغيرة لم تكمل الخامسة عشر من عمرها بعد، اسمها عفاف راضى، رأى فيها رئيس تحرير «الكواكب» بذرة واعدة لشجرة وارفة الظلال فى المستقبل الذى سيأتى حتمًا فى يوم ما دون أن تكون شمس أم كلثوم ساطعة، لذلك رأى رجاء ومن معه فى تلك الصبية مشروعًا لامتداد كلثومى يحافظ على القمة الغنائية المصرية.

رجاء النقاش بنفسه يحكى فى مقدمة طويلة الكواليس التى أوصلتنا لتلك الندوة الاستثنائية، حيث يقول عن المرة الأولى التى سمع فيها اسم عفاف راضى كان على لسان عاصى الرحبانى فى زيارته قبل شهور، وكيف أن عاصى أراد أن يصطحبها فى البداية لتنضم إلى كتيبة الرحبانية ومسرحها الغنائى الثرى بجوار فيروز، لكنه راجع نفسه وذهب وتركها لأنه رأى على حد قول رجاء نفسه أن عفاف ما زالت صغيرة، وهى الآن طالبة تدرس فى ظروف لا توجد مثلها فى بيروت ولا أى عاصمة عربية أخرى، حيث إن معهد الكونسرفتوار بإمكاناته الضخمة لا يوجد فى أى مكان آخر، وقال عاصى لرجاء لا بد أن تستفيد عفاف أقصى درجات الاستفادة من المعهد، لتكون قدوة لجيل جديد فى الفن يجمع بين الموهبة والدراسة، واقتنع بالفعل رجاء النقاش بوجهة نظر صديقه عاصى، لكنه رأى أن يساعد بجوار ذلك أن تدخل عفاف الوسط الفنى عبر «الكواكب» حتى تعيش فى بيئة فنية حاضنة تساعدها على النمو والتطور بجوار الدراسة، وتساعدها قبل كل شىء على اكتشاف نفسها اكتشافًا حقيقيًا حتى لا تتبدد موهبتها أو تقع فريسة فى مصيدة الأساليب التجارية السهلة.

وكشف رجاء سرًا آخر فى تقديمه للندوة، حيث قال إن عفاف قالت له بعد لقائهما الأول معه عند عاصى الرحبانى فى فندق النيل: «ألا يمكن أن تقدمنى إلى محمد عبدالوهاب، لأننى أتمنى أن يسمع صوتى».

بالطبع كانت عفاف، الفتاة الجديدة على الوسط، تنظر بإكبار شديد على بوابة عبدالوهاب العظيمة وتتمنى الدخول من خلالها، ووافقها رجاء بالفعل القول، بل أكد لها ثقته أن عبدالوهاب لن يرفض تشجيعها، لكن كان يرى أن هناك خطوة أهم قبل أن تدخل عفاف العالم الوهابى الخطير، وهى أن يستمع إليها عدد من الملحنين والفنانين الشباب، وهو ما فعله بالضبط رجاء فى ندوة «الكواكب».

وجّه النقاش الدعوة أولًا إلى محمد الموجى، الذى أسهم كثيرًا قبلها فى فتح أبواب الحياة الفنية المغلقة أمام المواهب الجديدة، بالإضافة إلى صلاح جاهين الشاعر الفذ، والموسيقار المثقف سليمان جميل، والملحن والمطرب سيد إسماعيل صاحب المحاولات الجادة لتقديم ألحان شعبية، وأخيرًا ملحن شاب كان قد بدأ يلمع فى الشهور الأخيرة واسمه حلمى بكر.

وبدأت الندوة بعد أن شكر رئيس تحرير «الكواكب» الحضور الكريم الذى لبّى الدعوة الغريبة وقتها من المجلة لمناقشة صوت شاب لم يسمعوا عنه قبل ذلك.. وفى البداية طلب الموجى من عفاف أن تغنى لحنًا تحفظه، فبدأت عفاف تغنى أمام الحضور أحد الموشحات القديمة التى تقول: 

ما احتيالى يا رفاق فى غزال

علم الغصن التثنى حين مال

زدت شوقًا وهو عنى معرض

لست أدرى أهو تيه أو دلال

بعد أن انتهت عفاف من الموشح قال لها الموجى: «غنى حاجة تانى ترتاحيلها مش شرط تكونى دارساها».

فغنت عفاف مقطعًا من «يا مرايتى» لنجاة الصغيرة، ثم طلب صلاح جاهين هذه المرة من عفاف أن تغنى شيئًا مما تغنيه فى المعهد، فغنت له عفاف مقطعًا غربيًا من الأوبرا الألمانية التى تدرسها فى المعهد، وبعد أن انتهت علّق الملحن الشاب حلمى بكر بقوله:

«عفاف رائعة فى الغناء الغربى، لكن لما بتيجى تغنى الشرقى باحس إنها مشتتة بين الاتنين»

الموجى رد على حلمى وعارضه الرأى قائلًا إن عفاف لما غنت لنجاة كانت كويسة أوى، وأكمل توجيهه بأن تغنى شرقى بس أى تتخصص فيه وتترك الغربى، ولكى يتأكد أكثر من رأيه طلب منها أن تغنى مقطعًا من الأوبرا «الطليانى»، وعندما غنت قاطعها معجبًا ووجّه كلامه للحضور «دى المسرح الغنائى على طول».

واستمرت ندوة «الكواكب» على هذا المنوال من الثراء فى النقاش بين الحضور حول تلك الموهبة التى تقف أمامهم، واستطاع رجاء النقاش أن ينقل حماسه الشديد لعفاف إلى نفوسهم، فبدأوا يتعاملون معها بأنها مشروعهم الذى يجب أن يرى النجاح وأن تُزال العقبات من أمامها للانطلاق، ومن أهم تلك العقبات التى توقف أمامها الحضور هى حرمان عفاف من غناء اللون الشرقى داخل معهد الكونسرفتوار طبقًا لقواعده الصارمة التى تطبقها بحزم شديد أستاذتها الشهيرة فى المعهد «مدام جيلان رطل»، وكما خرجت الندوة بتوصيات لعفاف فقد خرجت بما يشبه البيان الموجّه لوزير الثقافة، وُضع فى مربع كبير داخل تغطية الندوة بعنوان «رجاء إلى الدكتور ثروت عكاشة»، وحمل الرجاء نقاطًا عدة، أهمها ما يخص مشكلة عفاف بشكل مباشر، والبيان بالطبع صاغه رجاء النقاش بنفسه، لذلك أرى أن الأقيم والأفضل أن نقرأه معًا كما كتبه الناقد الأهم حينها: 

«نرجو فتح قسم جديد بالكونسرفتوار يجمع بين الدراسة الغربية والدراسة الشرقية.. وبهذه المناسبة نرجو من الدكتور ثروت عكاشة أن يوافق على السماح للطالبة عفاف راضى وهى صاحبة موهبة أصيلة أن تدرس فى القسم الشرقى مع استمرار دراستها فى القسم الغربى بالمعهد، حيث إن أنظمة المعرض لا تسمح بذلك، لكن إمكانيات هذه الطالبة الموهوبة تسمح لها بإتمام هذين اللونين من الدراسة فى وقت واحد وبتفوق تام، بالإضافة إلى أن موهبتها تحتاج إلى هذا الجمع بين الدراستين، وسوف نكسب بذلك فنانة تقدم شيئًا جديدًا إلى الفن فى بلادنا.. ونحن واثقون من أن الوزير الفنان الدكتور ثروت عكاشة سوف يستمع إلى صوتنا وسوف يضع رجاءنا موضع الدراسة والتحقيق».

نكسة الوطن توقف قطار مطربة «الكواكب»

لم تمر خمسة أشهر على نشر ندوة «الكواكب» الاستثنائية لتقديم «عفاف راضى»، حتى مر الوطن كله بنكسته الكبرى فى يونيو ١٩٦٧، وانشغل الجميع بتلك اللطمة الكبرى التى سقطت على وجه الكل، وبدا أن رجاء النقاش قد خسر رهانه فى عفاف، فمن يملك الوقت أو الجهد أو الرغبة فى إقامة أوتاد موهبة جديدة غير مضمون نجاحها، فى ظل تلك الظروف العصيبة؟، بخلاف أن حالة الإحباط العامة قد خيمت على الوطن بكل أطيافه، فتجد مثلًا أن أحد أهم حضور ندوة «الكواكب» والذى كان ينتظر منه رجاء النقاش الكثير، قد أصابته النكسة باكتئاب حاد استدعى سفره أكثر من مرة للعلاج، وهو صلاح جاهين، قبل أن يعود إلى صفوف المرابطين على أبواب الفن المصرى المقاتل فى خندق الوطن.. ومرت باقى سنوات الستينيات سريعًا، وخفتت سيرة تلك الفتاة التى ظهرت على صفحات «الكواكب»، وهى سنوات تستطيع أن تطلق عليها بضمير مستريح «سنوات الست».. نقصد أم كلثوم بالطبع، حيث قامت كوكب الشرق بدور بالغ العظمة جعل العالم كله يقف مشدوهًا أمام ما تفعله سيدة فى السبعين قررت أن تجوب العالم نصرة لقضية وطنها المهزوم، وهو ما سجلته كتب التاريخ بسنوات المجهود الحربى، وهى سنوات على قسوتها أبرزت معدن هذا الشعب الأصيل الذى رفض الانصياع للهزيمة وسماها نكسة ليقول ضمنيًا إن عمرها قصير وسوف يرفع الوطن رأسه فى أقرب وقت ممكن، فلا تيأسوا.. فى ظل تلك السطوة الكلثومية القومية التى سيطرت على الأذن والوجدان المصرى والعربى، كان من العسير على بنت المحلة الكبرى عفاف راضى، طالبة المعهد، أن تطل برأسها الخجول لتقول أنا هنا، فاستكانت على ما يبدو داخل أروقة الكونسرفتوار حتى تهدأ عاصفة الهزيمة، ولم ألمح فى أعداد مجلة «الكواكب» خلال تلك السنوات القليلة شيئًا يذكر يخص مطربة الكواكب، إلى أن أطلت حقبة السبعينيات برأسها لتخرج المجلة فى عدد ١٤ أبريل ١٩٧٠ بعفاف راضى التى كادت تغرق فى غياهب النسيان، ويظهر رجاء النقاش مرة أخرى عبر مقاله الأيقونى الدائم «كلمات فى الفن».. ليعلن ظهور الفارس المنقذ الذى مد يده لانتشال الأميرة عفاف مطربة الكواكب قبل أن يغلفها النسيان، ومن يكون المنقذ غير الشاطر بليغ حمدى.

صرخة رجاء النقاش فى وجه الذين خذلوا عفاف

يبدو أن رجاء النقاش كان يحمل داخله حالة سخط محبوسة بعد انصراف جميع من وعدوا فى ندوة «الكواكب» الأولى قبل سنوات بأن يقفوا بجوار البنت الموهوبة، ولم ينصفه أحد على الرغم من إبداء أغلبهم استعدادهم وانبهارهم بموهبتها، كما رأينا فى تغطية الندوة الأولى، لذلك وجّه رجاء نقدًا لاذعًا شديد اللهجة لهم جميعًا ولم يستثنِ أحدًا، وبدأ مقاله باتهام قاسٍ للجميع قائلًا: «من أخطر العيوب التى ألاحظها فى بعض الفنانين المصريين ما يمكن أن أسميه القلب البارد والعقل البارد، والبرود فى القلب والعقل هو الذى يدفع الفنان إلى اتخاذ موقف فاتر هادئ من قضايا الفن وقضايا الحياة، وما أكثر الفنانين الذين يعرفون الحقيقة ولا يتحمسون لها، وهذا أمر ردىء ومزعج إلى أبعد حد».

ويكمل رجاء بأسى شديد: «سمعت من فنانين كبار كلامًا طيبًا جدًا عن عفاف راضى.. سمعت هذا الكلام من عبدالوهاب وسمعته من محمد الموجى.. وسمعته من عاصى الرحبانى زوج فيروز.. بل لقد قال لى عاصى الرحبانى إنه سيأخذ عفاف راضى معه إلى لبنان ليدربها ويتولى مسئوليتها الفنية.. ثم عاد عاصى فعدل عن رأيه وقال: إنه من الأفضل أن تستكمل عفاف تعليمها فى القاهرة وتشق طريقها بعد ذلك.. المهم أن الذين أعجبتهم عفاف من كبار الملحنين والذين لم تعجبهم وقفوا منها موقفًا سلبيًا خلال أربع سنوات متواصلة».

ثم يتطرق رجاء النقاش أكثر لقيمة عفاف راضى بالنسبة له، وكأنه يدخل فى حالة فضفضة مع القراء، فيقول إنها ليست مجرد صوت جديد عادى.. بل هى قضية فنية عزيزة وغالية، بذل كل ما يملك من جهد وحماس فى سبيل تقديمها إلى الحياة الفنية منذ سنة ١٩٦٦.. وكتب عنها فى «الكواكب» وحدّث عنها جميع الملحنين المصريين ما عدا واحد هو بليغ حمدى.. لأنه عبقرى مجنون كثير الحركة كثير السفر كثير الحب.. فلم يكن يلقاه بسهولة ولم يكن يعرف أين يقيم.. ولا يراه إلا بالصدفة وحدها.

وفى نفس المقال الكاشف يكمل رجاء إعجابه بموقف بليغ الفنى النبيل الذى أنقذ موهبة عفاف من الضياع بين طرق أبواب أصحاب القلوب والعقول الباردة، كما وصفهم، فيقول: إن موقف بليغ مثالى، يجب أن يتعلم منه كل فنان فى بلادنا، كبيرًا كان أو صغيرًا.. لقد سمع بليغ حمدى المطربة الجديدة عفاف راضى.. ومنذ أن سمعها وهو فى حالة اشتعال فنى جنونى رائع.. لقد لحّن لها على الفور لحنًا هو من أروع ما سمعت فى السنوات الأخيرة.. لحن بديع مؤثر عميق يسيطر على القلب.. وتعاقد بليغ مع عفاف راضى لمدة ٣ سنوات.. وقرر أن يقف وراءها حتى تنال مكانتها الفنية التى تستحقها.

وتدليلًا على حمية بليغ وحماسه لعفاف، قال إنه زاره فى مكتبه مع مجدى نجيب.. ورفض أن يجلس، ورفض أن يسمح له بإكمال ما فى يده من عمل.. وبنص كلام رجاء يقول: لم يسمح لى بمناقشته وسحبنى من يدى إلى مكتبه فى شارع ٢٦ يوليو وأسمعنى اللحن والصوت الرائع.. وأبكانى بليغ بما فى لحنه من جمال وعذوبة وثراء موسيقى كبير.. كنت أبكى من السعادة لأننى وجدت فنانًا كبيرًا متحمسًا فى وسطنا الفنى الذى نسى الحماس وتعلم البرود والدبلوماسية وعدم الرغبة فى اكتشاف شىء جديد والاكتفاء بما هو موجود.. لأنه «ليس فى الإمكان أبدع مما كان».

ثم ينهى رجاء مقاله القاسى بانفعال فرح كبير دون أن ينسى أن يعطى الباقين الذين خذلوه «كتف قانونى» بقدر المرارة التى شعر بها من خذلانهم، حيث كتب يقول: «لقد صرخت فى الكواكب عشرات المرات من أجل عفاف راضى.. ولكن لم يكن هناك من يسمع أو يستجيب.. والحمد لله أن فى بلادنا فنانًا مثل بليغ حمدى.. وإلا ضاعت عفاف راضى وضاعت معها صرخاتى.. شكرًا لك يا بليغ.. والحمد لله الذى أعطانا قلبًا ملتهبًا مثل قلبه.. لتعوض به دبلوماسية عبدالوهاب الفنية وكسل كمال الطويل وصبر الموجى الذى لا ينتهى و(حباله الطويلة) التى لا تغنى ولا تسمن من جوع».

انتهى مقال رجاء النقاش الذى يعلن فيه عودة مشروعه الفنى الكبير «عفاف راضى» التى دخلت عالم بليغ شديد الرحابة، ولتلك قصة كشفت أيضًا «الكواكب» فى عدد تالٍ عن أدق كواليسها.. نتتبعها فى الحلقة المقبلة.

محمد  الجوهري
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق